إِنَّ الْحَـــــــمْدَ لِلهِ تَعَالَى، نَحْمَدُهُ وَ نَسْتَعِينُ بِهِ وَ نَسْتَهْدِيهِ وَ نَسْــتَنْصِرُه
وَ نَــــعُوذُ بِالْلهِ تَعَالَى مِنْ شُــــرُورِ أَنْفُسِنَا وَ مِنْ سَيِّئَــــاتِ أَعْمَالِنَا
مَنْ يَـــهْدِهِ الْلهُ تَعَالَى فَلَا مُضِــــلَّ لَهُ، وَ مَنْ يُـضْلِلْ فَلَا هَــــادِىَ لَه
وَ أَشْــــــــــهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الْلهُ وَحْــــــدَهُ لَا شَــــــرِيكَ لَه
وَ أَشْـــهَدُ أَنَّ محمد عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، صَلَّى الْلهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَا
أَمَّـــا بَعْــــد:
سلسلة من نور النبوة (3) حتى لا تغرق السفينة
د. عبد الرحمن فودة
من نور النبوة
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سنة الأنبياء عامة, ونبينا صلى الله عليه وسلم خاصة, وهو وسيلةُ الحفاظِ على سلامة الأمة، ووقايتها من عوامل الانحراف, ولقد أعد الله تعالى للقائمين به أجرًا عظيمًا، كما أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للعقوبة الشديدة في الدنيا والآخرة «إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه، أوشك أن يعمهم الله بعقابه»(1).
وهذا حديث يتجلى لنا فيه مغبةُ تركِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
روى البخاري وأحمد والترمذي عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مَرُّوا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ مَنْ فوقَنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جميعًا»(2).
هذا تمثيل لأولئك الذين أخطئوا الطريق وضلوا عن سواء السبيل، ففهموا حريتهم فهمًا سقيمًا، وساروا في هذه الحياة على غير هدى، بل حَسب أهوائهم وشهواتهم..
وتمثيلٌ آخر لأولئك الذين يَرون المنكر ويسكتون عليه، فلا تتمعر وجوههم غضبًا لله، ولا تتحرك نفوسهم لتغيير ذلك المنكر، بل يغمضون أعينهم عمّا يدور حولهم من ارتكاب المخالفات والموبقات، وكأن الأمر لا يعنيهم في كثير أو قليل، ويظنون في أنفسهم الصلاح والفلاح.
فالحديث إذن تصوير للمجتمع بما فيه من أخيار وأشرار، مُتَّقِينَ وفجار، يشبههم بركاب سفينة في بحر خضم متلاطم الأمواج، تمخر السفينة عُبابه، وقد انقسم الركاب إلى قسمين، كلٌّ أخذ مكانه بعد الاستهام والاقتراع، فصار قسمٌ أعلى السفينة يتمتعون بروعة الطبيعة ونضارة الحياة، وينعمون بوسائل الرفاهية والراحة، من عذب الماء، ووثير الفراش، وخدمٍ يسعون في تلبية رغباتهم وحاجاتهم.
والقسم الآخر صار في أسفل السفينة، لا ينعمون بما نَعِمَ به مَنْ فوقهم، حتى الماء كانوا يجلبونه من أعلى، وهنا خطرت لهم فكرة أن يثقبوا أسفل السفينة ليستخرجوا الماء من البحر، فلا يُتعبون أنفسهم في حمل الماء، ولا يزعجون جيرانهم، فبدءوا بتنفيذ ما أرادوا وقرروا ثقب السفينة، فاستخرجوا معاولهم، وراحوا يضربون في السفينة، وسمع الذين هم في الطبقة العليا أصوات المعاول فهُرعوا نحو إخوانهم ووقفوا في وجوههم يريدون منعهم، ولكن هؤلاء استاءوا من تدخل إخوانهم وقالوا: هذا مكاننا ونصيبنا نصنع فيه ما نشاء، إنها حريتنا!! فإن تركوهم وما أرادوا هلك ركاب السفينة جميعًا، وإن أصروا على منعهم وأخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا.
وهكذا نحن في حياتنا، نعيش على ظهر الأرض كركاب السفينة، فينا الطائع والعاصي، والبر والفاجر، فإن تُرِك أهل الشر والفساد يعيثُون في الأرض، يسرحون ويمرحون، دون أن يوجِّه لهم أهل الخير والصلاح النصحَ، أو يمنعوهم من اقتراف الموبقات هلك الجميع ونزل عقاب الله وإن منعوهم من الفساد والإفساد رست بهم السفينة على بر الأمان.
وفى الحديث إشارة إلى أن القائمين بأمر الله من الدعوة إليه والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هم الأعلون، وأن الذين يتخبطون في ظلمات المعاصي هم الأدنون، وكلها من مفردات حياتنا اليومية، سهلة النطق، واضحة المعنى، وتأمل معي -أخي الكريم- ألفاظ الحديث، واستخدام الصور البيانية، والمحسنات البديعية التي تزيد القارئ وضوحًا في الفكرة، ومعرفة بالغرض.
- تشبيه القائم على حدود الله بمن سكنوا أعلى السفينة، والواقع في حدود الله بمن في أسفلها.
- والطباق أو التضاد بين أعلاها وأسفلها، وبين القائم والواقع.
- والجناس في قوله (خرقْنا - خرْقًا).
- والتكرار في لفظة (نجوا) و(ونجوا جميعًا).
وهكذا يتضح لنا من الحديث أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو طوق النجاة لجماعة المسلمين، وأن تركه سبب الهلاك والضياع.
هذا، وبالله التوفيق ومنه الهداية.
المصدر: كتاب (قبس من نور النبوة).