السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ولدت جميلة بوحيرد في حي القصبة بالجزائر العاصمة عام 1935، وهي البنت الوحيدة بين سبعة أخوة شباب لعائلة متوسطة الحال. وقد تلقت تعليمها في مدرسة فرنسية، لكنها سرعان ما انضمت لحركة المقاومة السرية.
وكانت جميلة بوحيرد واحدة من الآلاف المؤلفة من المناضلين الذين كتب لهم سوء الحظ أن يسقطوا في قبضة العدو، فقد ألقي القبض عليها أثناء غارة شنتها القوات الفرنسية الخاصة، قدمت للمحاكمة في تموز 1957، فحكم عليها بالإعدام.
وكان دور جميلة النضالي يتمثل في كونها حلقة الوصل بين قائد الجبل في جبهة التحرير الجزائرية ومندوب القيادة في المدينة «ياسيف السعدي» الذي كانت المنشورات الفرنسية في المدينة تعلن عن مئة ألف فرنك ثمناً لرأسه!!
وفي أحد الأيام كانت جميلة متوجهة إلى ياسيف السعدي برسالة جديدة، لكنها أحست أن ثمة من يراقبها فحاولت الهروب، غير أن جنود الاحتلال طاردوها وأطلقوا عليها الرصاصات التي استقرت إحداها في كتفها الأيسر وحاولت المناضلة الاستمرار في الإفلات.
غير أن ابنة الثانية والعشرين سقطت بجسدها النحيل الجريح، وأفاقت في المستشفى العسكري حيث كانت محاولة الاستجواب الأولى لإجبارها على الإفصاح عن مكان (ياسيف السعدي)، لكن جميلة تمسكت بموقفها، فأدخلها جنود الاحتلال في نوبة تعذيب استمرت سبعة عشر يوماً متواصلة،
وصلت إلى حد أن أوصل جنود الاحتلال التيار الكهربائي بجميع أنحاء جسدها حيث لم يحتمل الجسد النحيل المزيد وأصيب بنزف استمر خمسة عشر يوما، لكن لسان جميلة بوحيرد وجسدها كان أقوى من كل محاولات معذبيها.
بعدها انتقلت جميلة لسجن بار بدوس، أشهر مؤسسات التعذيب في العصر الحديث، حيث بدأت نوبات أخرى من التعذيب استمرت إحدى جلساتها إلى ثماني عشرة ساعة متواصلة حتى اغشي عليها وأصيبت بالهذيان، ثم بعدها السماح لها بوجود تحقيق رسمي، حيث حضر هذا التحقيق المحامي الفرنسي مسيو غرجيه الذي قال لجميلة بمجرد توليه الدفاع عنها: (لست وحدك، فكل شرفاء العالم معك).
ورغم أن القاضي المشرف على التحقيق رفض منحه ساعة واحدة للجلوس معها للاطلاع على ملابسات القضية، ولم يستجب إلا بعد أن هدد بالانسحاب من القضية وأيدت جميلة التهديد بأنها لن تجيب عن أي أسئلة في غير حضرة محاميها، واستمر التحقيق معها قرابة الشهر .
بدأت المحكمة يوم 11 تموز 1957، بعد انتهاء التحقيق، وبعد أن رفض عديد من المحامين الفرنسيين الاشتراك في الدفاع عن جميلة بوحيرد لرفض المحكمة اطلاعهم على ملف القضية ولرفضها أيضاً استبعاد التحقيقات التي أخذت خلال جلسات التعذيب وأخيراً تطوع جاك فيرجيس المحامي الفرنسي للدفاع عن جميلة.
وكانت جلسة المحاكمة الأولى مجرد سجال عقيم بين المحكمة وجميلة بوعزة زميلة جميلة بوحيرد في الاتهام واعترفت فيها بوعزة بأن بوحيرد هي التي حرضتها على إلقاء المتفجرات وكانت تتحدث بصوت عال وبشكل غير طبيعي، الأمر الذي دعا مسيو فرجيس لتقديم طلب للمحكمة لعرض بو عزة على طبيب أمراض عقلية فرفضت المحكمة طلبه، ورغم ذلك استمر في الدفاع عن جميلة بو حيرد وزملائها.
غير أن تشدد المحكمة وانحيازها الواضح دفعه لإبلاغ المحكمة بأن احترامه للعدالة واحترامه لنفسه يضطرانه إلى الانسحاب وإلى إبلاغ نقيبهم في باريس.
وفي اليوم الثالث تم استجواب المتهمين الأربعة جميلة بو حيرد وجميلة بوعزة وطالب وحافيد، وكذا الاستماع إلى الشهود وإلى ثلاثة من الأطباء العقليين بشأن الحالة العقلية لبوعزة الذين رفضوا الإفصاح عن حالتها بحجة سر المهنة.
وكانت اعترافات جميلة بوعزة 19 سنة تقول: إنه بناء على إشارة من جميلة بوحيرد وضعت بو عزة قنبلة في سلة المهملات يوم 9 تشرين الثاني 1956 وفي يوم 26 كانون الثاني 1957 وضعت قنبلة ثانية انفجرت في مقهى آخر نتج عنه قتل شخصين.
وأيضاً تم تضمين ملف القضية صورة من تحقيق ادعت المحكمة أن جميلة بو حيرد أدلت به غير أنها أنكرت ذلك
وانتهت المحكمة إلى توجيه التهم التالية لجميلة بو حريد: إحراز مفرقعات والشروع في قتل والاشتراك في حوادث قتل وفي حوادث شروع في قتل وتدمير مبان بالمفرقعات والاشتراك في حوادث مماثلة، الانضمام إلى جماعة من القتلة) وخمس من هذه التهم عقوبتها الإعدام.
وعندما قرأت المحكمة المتواطئة الحكم بالإعدام على جميلة بو حيرد، انطلقت فجأة جميلة في الضحك في قوة وعصبية جعلت القاضي يصرخ بها: (لا تضحكي في موقف الجد)، وكأن الموقف بالفعل كان جدياً.
غير أنها قالت في قوة وثبات: (أيها السادة، إنني أعلم أنكم ستحكمون علي بالإعدام، لأن أولئك الذين تخدمونهم يتشوقون لرؤية الدماء، ومع ذلك فأنا بريئة، ولقد استندتم في محاولتكم إدانتي إلى أقوال فتاة مريضة رفضتم عرضها على طبيب الأمراض العقلية بسبب مفهوم، وإلى محضر تحقيق وضعه البوليس ورجال المظلات وأخفيتم أصله الحقيقي حتى اليوم، والحقيقة أنني أحب بلدي وأريد له الحرية، ولهذا أؤيد كفاح جبهة التحرير الوطني. إنكم ستحكمون علي بالإعدام
لهذا السبب وحده بعد أن عذبتموني ولهذا السبب قتلتم إخوتي بن مهيري وبو منجل وزضور، ولكنكم إذ تقتلوننا لا تنسوا أنكم بهذا تقتلون تقاليد الحرية الفرنسية ولا تنسوا أنكم بهذا تلطخون شرف بلادكم وتعرضون مستقبلها للخطر، ولا تنسوا أنكم لن تنجحوا أبداً في منع الجزائر من الحصول على استقلالها.
وخرجت صرخة جميلة من قاعة المحكمة إلى أرجاء العالم، فقد ثار العالم من أجل جميلة، ولم تكن الدول العربية وحدها هي التي شاركت في إبعاد هذا المصير المؤلم عن جميلة فقد انهالت على السكرتير العام للأمم المتحدة وقتها (داج همرشولد) البطاقات من كل مكان في العالم، تقول: (أنقذ جميلة).
وقام محاميها فرجيس بحملة علاقات عامة واسعة غطت العالم واكتسب من وراء هذه القضية، وما تبعها من قضايا مماثلة، شهرة عالمية.
وكان من نتائج الضغط الكبير الذي مارسه الرأي العام العالمي تأييداً للبطلة جميلة بوحيرد أثر حاسم في إجبار الفرنسيين على تأجيل تنفيذ الحكم بإعدامها. وفي عام 1958، نقلت جميلة إلى سجن ريمس.
وتمر أيام قليلة ويتقهقر الاستعمار الفرنسي، ويعلن السفاح (لاكوست) أنه طلب من رئيس جمهورية فرنسا وقتئذ العفو عن جميلة، ثم يتبجح ويقول: (ما من امرأة أعدمت على أرض فرنسية منذ خمسين عاماً).
وكانت جميلة رغم ذلك على بضع خطوات من حتفها، وقد تعمدوا إخفاء موعد إعدامها عن الإعلام، وتواطأت معهم وكالات الأنباء الاستعمارية، لكن إرادة الشعوب كانت هي الأقوى والأبقى فوق إرادة الظلم والاستعمار، ولم يتم إعدام جميلة بوحيرد كما حكمت المحكمة الظالمة.
وعلى الصعيد السياسي، وبعد خسائر بشرية باهظة للجانبين، تم في أيار 1962 توقيع اتفاقيات إيفيان وإعلان استقلال الجزائر.
ومع تقدم سير المفاوضات بإطلاق سراح الأسرى الجزائريين تدريجياً. وعندما أطلق سراح جميلة، تزوجت بعد أشهر من محاميها.
وبعد الاستقلال، تولت جميلة رئاسة اتحاد المرأة الجزائري، وقبل مرور عامين، قررت أنها لم تعد قادرة على احتمال المزيد، فاستقالت وأخلت الساحة السياسية.