جيوش محمد على أبواب إستانبول
محمد علي باشا
اجتاحت جيوش "إبراهيم باشا بن محمد علي" بلاد الشام عام (1247هـ=1931م)، وتساقطت مدنه واحدة تلو الأخرى دون مقاومة تُذكر، حتى مدينة عكا التي استعصت على نابليون بونابرت ولم يفلح في اقتحامها، نجح إبراهيم باشا في فتحها، وكان لسقوطها دوي عظيم، ونال فاتحها ما يستحقه من تقدير وإعجاب.
ومضى الفاتح في طريقه حتى بلغ "قونيه"، وكان العثمانيون قد هجروها حين ترامت الأنباء بقدوم إبراهيم باشا وجنوده، ولم يبق بها سوى الجيش العثماني بقيادة رشيد باشا، وكان قائدًا ماهرًا يثق فيه السلطان العثماني ويطمئن إلى قدرته وكفاءته، ولم يكن هناك مفر من القتال، فدارت رحى الحرب بين الفريقين في (27 من جمادى الآخرة 1248هـ= 21 من نوفمبر 1832م) عند قونيه، ولقي العثمانيون هزيمة كبيرة، وأُسر القائد العثماني، وأصبح الطريق مفتوحًا إلى القسطنطينية.
أسباب الحملة على الشام
كان السبب المعلن لقيام محمد علي بحملته الظافرة على الشام هو اشتعال النزاع بينه وبين عبد الله باشا والي عكا، الذي رفض إمداد محمد علي بالأخشاب اللازمة لبناء أسطوله، وآوى عنده بعض المصريين الفارين من الخدمة العسكرية ودفع الضرائب، ورفض إعادتهم إلى مصر، وكان الخليفة العثماني "محمود الثاني" يقف وراء النزاع، ويُعضِّد والي عكا في معارضته محمد علي، ولم تكن العلاقة بين الخليفة العثماني وواليه في مصر على ما يرام.
غير أن الذي جعل محمد علي يقدم على هذه الخطوة هو أنه كان يرى أن سوريا جزء متمّم لمصر، ولا يتحقق الأمن بمصر ويأمن غائلة العدو إلا إذا كانت سوريا تحت سيطرته وسلطانه، وأن حدود مصر الطبيعية في جهة الشرق هي جبال طوروس، وليست صحراء العرب، ومن ثم كان يتحين الفرصة لتحقيق هدفه، حتى إذا ما لاحت انتهزها، وجرّد حملته إلى الشام.
اتفاقية كوتاهية
فزع السلطان محمود الثاني من الانتصارات التي حققها إبراهيم باشا فلجأ إلى الدول الأوروبية لمساعدته والوقوف إلى جانبه، لكنها لم تُجبه؛ لانشغالها بأحوالها الداخلية، ورأت في النزاع القائم مسألة داخلية يحلها السلطان وواليه، عند ذلك لجأ السلطان إلى روسيا –العدو اللدود للدولة العثمانية- لتسانده وتساعده، فاستجابت على الفور، ولم تتلكأ، ووجدت في محنة الدولة فرصة لزيادة نفوذها في منطقة المضايق، فأرسلت قوة بحرية رست في البسفور، وهو ما أقلق فرنسا وإنجلترا، وتوجستا من تدخل روسيا وانفرادها بالعمل، والتظاهر بحماية الدولة العثمانية، وكانت الدولتان تتمسكان بالمحافظة على كيان الدولة العثمانية؛ خشية من روسيا التي لم تكن تُخفي أطماعها في جارتها المسلمة.
تحركت الدولتان لفض النزاع وإعادة الأمن بين الخليفة وواليه الطموح، ولم يكن أمام السلطان العثماني سوى الرضوخ لشروط محمد عل
ي في الصلح، فلا فائدة من حرب نتائجها غير مضمونة لصالحه، في الوقت الذي يسيطر فيه إبراهيم باشا على الشام، ويلقى ترحيبًا وتأييدًا من أهله.
عُقد الصلح في كوتاهية في (18 من ذي القعدة 1249هـ= 8 من إبريل 1833م)، واتفق الطرفان على أن تتخلى الدولة العثمانية لمحمد علي عن سوريا وإقليم أدنة مع تثبيته على مصر وجزيرة كريت والحجاز، في مقابل جلاء الجيش المصري عن باقي بلاد الأناضول.
اشتعال الثورة في الشام
لم يكن صلح كوتاهية بين الطرفين سوى هدنة مسلحة قبلته الدولة العثمانية على مضض، وأُكرهت على قبوله؛ ولذا كانت تعد العدة لنقض الصلح وتنتظر الفرصة السانحة لاسترداد ما أخذه محمد علي منها قسرا وكرها دون رضى واتفاق، وإنما أملاه السيف وفرضته آلة الحرب.
وسنحت الفرصة للسلطان العثماني في سنة (1250هـ=1834م) حين قامت الثورة في سوريا على إثر ما أدخله إبراهيم باشا من النظم الجديدة في إدارة شئون البلاد للنهوض بها ولم يكن للناس عهد بها، وزاد من ثورة الناس ضد الحكم المصري ما فرضه على الناس من ضرائب، وإجبار الناس على الالتحاق بالجيش ونزع السلاح من أيدي الأهالي.
وعلى الرغم من أن سوريا شهدت نشاطًا في التجارة، وازدهارًا في الصناعة واستتبابًا في الأمن بفضل المشروعات التي أدخلها إبراهيم باشا في البلاد، فإن ذلك لم يكن كافيا لنَيل رضى الناس؛ إذ صاحبه استبداد وقهر.
لم تكن أصابع السلطان العثماني بعيدة عن إشعال الثورة، وتأجيج الغضب في القلوب، فشبّت الفتنة في أماكن عديدة، وبذل إبراهيم باشا جهودًا خارقة في إخماد الفتنة وقمع الثورة، واستنفد ذلك أموالاً طائلة ونفوسًا كثيرة.
الحملة الثانية على الشام
فشلت المفاوضات بين الدولة العثمانية ومصر في تسوية النزاع بينهما بطريقة ودية، فأعلن محمد علي عن عزمه في قطع العلائق التي تربط مصر بدولة الخلافة العثمانية، وقد كان يعينه على ذلك تنامي قوته وازدياد نفوذه، وعجزت الدول الأوروبية أن تثنيه عن عزمه، ولم يكن يرضيها ظهور قوة إسلامية فتية، ربما يشاء لها القدر أن تبثّ الحياة في جسد الخلافة الواهن، فيهب من رقدته، ويسترد بعضا من عافيته، فيعيد إلى الأذهان جلال هيبته، وعظمة قوته.
كان السلطان العثماني قد أعد العدة لاسترداد سوريا من محمد علي، فحشد قواته على الحدود، ولما أتم العثمانيون استعدادهم بدءوا في زحفهم، فعبروا نهر الفرات وواصلوا زحفهم حتى اجتازت طلائعهم الحدود المرسومة السورية - التركية التي حددتها اتفاقية كوتاهية، فأرسل إبراهيم باشا إلى أبيه يخبره بالأمر، وفي الوقت نفسه لم ينتظر رد أبيه، بل تحرك بجيشه الذي كان يقيم بحلب؛ حيث أجلى العثمانيين عن مواقعهم، وفي أثناء ذلك جاء الرد من محمد علي إلى ابنه بألا يكتفي بصد هجوم العثمانيين وأن يعبر الحدود إذا اقتضى الأمر ذلك لسحق الجيش العثماني.
معركة نزيب (نصيبين)
اتجه إبراهيم باشا بجيشه الذي يبلغ أربعين ألف مقاتل إلى حيث يعسكر الجيش العثماني، ويحتل مواقعه الحصينة في بلدة نزيب التي تقع بالقرب من الحدود التركية - السورية، وكان الجيش العثماني يبلغ تعداده أربعين ألف مقاتل، وقد أُعِدّ إعدادًا حسنا، وعلى كفاءة عالية في فنون القتال.
وفي (11 من ربيع الآخر 1255هـ = 24 من نوفمبر 1839م) التقى الفريقان عند قرية نزيب في معركة هائلة حسمها إبراهيم باشا لصالحه، وألحق بالعثمانيين هزيمة مدوية، وكان ثمن النصر باهظا؛ حيث سقط أربعة آلاف جندي مصري بين قتيل وجريح.
وقبل أن تصل أنباء هذه الكارثة إلى عاصمة الخلافة العثمانية كان السلطان محمود الثاني قد قضى نحبه في (17 من ربيع الآخر 1255هـ= 30 من يونيو 1839م)، وخلفه ابنه عبد الحميد، وكان شابا لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره، تسلّم قيادة الدولة العثمانية في ظروف بالغة الصعوبة، فأراد أن يحسم الخلاف مع محمد علي؛ حقنًا لدماء المسلمين، ومنعًا للتدخل الأجنبي، وبعث برسول إليه للتفاوض في أمر الصلح، ونقاط الخلاف بين الطرفين.